فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافًا بالبعث، وجعل منتهيًا إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم، أو عالَم، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة.
ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان.
كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين، ثم صاروا إلى الله، وهذا كقوله تعالى: {ففروا إلى اللَّه} [الذاريات: 50].
وجعل المصير إلى الله تمثيلًا للمصير إلى أمره ونهيه: كقوله: {ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه} [النور: 39] وتقديم المجرور لإفادة الحصر: أي المصير إليك لا إلى غيرك، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

هذه شهادة الحق سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله بالإيمان، وذلك أتمُّ له من إخباره عن نفسه بشهادته.
ويقال آمن الخَلْق كلُّهم من حيث البرهان وآمن الرسول عليه السلام من حيث العيان.
ويقال آمن الخَلْق بالوسائط وآمن محمد صلى الله عليه وسلم بغير واسطة.
ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القَدْر فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ}، ولم يقل آمَنتَ، كما تقول لعظيم الشأن من الناس: قال الشيخ، وأنت تريد قلتَ.
ويقال: {آمَنَ الرَّسُولً كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلُّ آمنوا استدلالًا، وأنت يا محمد آمنتَ وصالًا. اهـ.

.قال الفخر:

دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما خص الرسول بذلك، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلامًا متلوًا يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحيًا لا يعلمه سواه، فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصًا بالإيمان به، ولا يتمكن غيره من الإيمان به، فلهذا السبب كان الرسول مختصًا في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره. اهـ.

.قال القرطبي:

روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: «إن الله قد أحل الثناء عليك وعلى أُمتك فسل تُعْطَه». فسأل إلى آخر السورة. اهـ.

.قال الألوسي:

وذكره صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانًا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لاسيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده.
أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرسول بِمَا} قال عليه الصلاة والسلام: «وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة وهي شاهد لحديث أنس فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانًا تفصيليًا، وأجمله إجلالًا لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعارًا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الإبتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ}.
ذكر ابن عطية سبب نزول الآية أنها لما نزلت {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآية شق ذلك على المؤمنين ثم قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.
فَمَدحهم الله وأثنى عليهم ورفع عنهم المشقة بقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قال ابن عرفة: وضم الإخبار عنهم بالإيمان في هذه الآية إلى هذا السبب يقتضي استلزام الإيمان للعمل الصالح، قال: وفيها سؤال وهو أن الفاعل مخبر عنه بفعله وتقرر أنه لا يجوز قام القائم، ولا ضرب الضارب، إذ لا فائدة فيه، فلو قيل: آمن الرسول والصحابة لأفاد، فكيف قال آمَنَ المؤمنون؟
والجواب: أنّه يفيد إذا قيد بشيء كقولك قام: في الدّار القائم، وهنا أفاد تقيده وهو قوله: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}. انتهى.
فإن قلت: لم ذكر الرسول ومعلوم أنه آمن؟
قلت: إنه ذكر مع المؤمنين تشريفا لهم وتعظيما إذ لا ينظم الجوهر النفيس إلا مع نفيس مثله.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: وكل لفظة تصلح للاحاطة والقرينة تبين ذلك. انتهى.
قال ابن عرفة: وظاهر أنّها ليست نصّا في العموم خلافا للأصوليين فإنهم ذكروها في ألفاظ العموم وتقدم للنحويين التفريق بين رفعها ونصبها في قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ** عليّ ذنبا كله لم أصنع

فقالوا: رفعها أعم.
قلت: إنما أراد ابن عطية قولهم: كل الصيد في جوف الفراء.
ورأيت رجلا كل الرجل وقولهم: أكلت شاة كل شاة.
قوله تعالى: {وملائكته}.
قال ابن عرفة: لابد في الإيمان بالملائكة من استحضار أنّهم أجسام متحيزة منتقلة كبني آدم.
ولذلك قال أبو عمران الفارسي في المسألة المنقولة عنه في الكفار: إنّهم ما عرفوا الله قط ولا آمنوا به خلافا للغزالي من أهل السنة فإنه قال في الملائكة إنهم أجسام لطيفة لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ونحا في هذا منحى الفلاسفة.
قيل لابن عرفة: إنّ المقترح توقف فيهم؟
فقال: إنما توقف في إثبات الجوهر الفرد وهو شيء لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ولم يتوقف في الملائكة.
قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}.
قال الزمخشري: قرأ ابن عباس: وَكِتَابِهِ يريد القرآن وعنه الكتاب أكثر من الكتب.
فإن قلت: كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب؟
قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منها شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته الاّ ما فيه الجنسية من المجموع.
وقدره الطيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته المجموع والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلا المفردات فقط.
قيل لابن عرفة: قد اختلفوا في المفرد المحلى بالألف واللاّم هل يفيد العموم، واتفقوا على أنّ الجمع يفيد العموم لاسيما المحلى بالألف واللاّم؟
فقال: ما كلامنا إلا فيما ثبت فيه العموم من مفرد أو جمع، فالمفرد الذي يثبت فيه العموم أعم من الجمع الذي يثبت فيه العموم.
وكلام أبي حيان في هذا الموضع غير صحيح وكذلك كلام الطيبي.
قال: وقد ذكر القرافي في الخلاف في دَلاَلة العام على أفراده هل هي تضمن أو التزام ونص على أن المفرد الذي أريد به العموم دال على أفراده ومسمياته وذلك كان أعم من الجمع.
قيل لابن عرفة: لعل دلالته على العموم بقرينة حالية؟
فقال: إذا تعارض صرف الدلالة للفظ أو لقرينة فصرفها للفظ أولى. انتهى.
قلت: لأن دلالة الجمع على أفراده من باب دلالة اللفظ على جزء مسماه ودلالة المفرد من باب دلالة اللفظ على تمام مسماه لأنه يدل على هذا المسمى وحده وعلى هذا بدلا عنه.
قال ابن عرفة: ودلالة المطابقة حقيقة ودلالة التضمن والالتزام مجاز.
فإن قلت: ليس الكتب في الآية معرفا بالألف واللاّم بل مضافا؟
قلت: الإضافة عاقبة الألف واللاّم.
ولذلك قال ابن التلمساني شارح المعالم في المسألة الثانية من الباب الثالث: إن من ألفاظ العموم صيغ الجموع المعرفة بلام الجنس أو بالإضافة.
ابن عرفة: وفائدة هذا الترتيب في الآية ما يقولونه: وهو التركيب والتحليل لأنّك إن بدأت من أول قلت: الله الأول، والملائكة يتلقون الوحي منه، والوحي في ثالث رتبة، لأنّه ملقى ومتلقى كقولك: أعطيت زيدا درهما، فالدرهم معطى ومأخوذ، فهو مفعول بكل اعتبار، وزيد فاعل ومفعول فالرسل في الرتبة الرابعة.
وإن بدأت من أسفل قلت: الرسل المباشرون لنا والقرآن هو الذي يقع به المباشرة وهو منزل عليهم ثم من أنزله من عنده.
قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}.
فإن قلت: كيف هذا مع قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} قلت: إذا أسند الحكم إلى الشيء فإنما يسند إليه باعتبار وصفه المناسب له وقد قال: {من رسله} فما التفريق بينهم إلا في وصف الرسالة أي لا نؤمن ببعضهم ونترك بعضهم بل نؤمن بالجميع.
قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}.
عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله عليه وسلم: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه}. وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة {والمؤمنون}. وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.
أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله. إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان أيضًا من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في {آمن} بين الرسول والمؤمنين. وبعد ذلك يجمعهما الله- الرسول والمؤمنين- في إيمان واحد، وهذا أمر طبيعي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بالله أولًا، وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنا بالله وبه ثم امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا، وهذا ما يوضحه القول الحق: {كل آمن بالله}.
إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بالله أن يؤمن بأنه رسول الله، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: أشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول: أشهد أني رسول الله.. إنه يقولها بفرحة.
ومثال ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فجلست اى تأخرت الارض عن الإثمار، وفى رواية فخاست: اى خالفت ما كان معهودا منها من الثمر فخلا عاما تأخر السلف عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ بكسر الجيم وفتحها وبالذال المعجمة ويجوز اهمالها زمن قطع تمر النخل ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى قابل أي أطلب نه أن يمهلني إلى عام ثان فيأبى فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول اليهودي أبا القاسم، لا أنظره فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر فأخبرته، فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر، جذ واقض فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته، وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله رواه البخارى في الأطعمة، ومسلم في الإيمان.
والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} سورة آل عمران.
إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أيضا أنه رسول الله، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني، ولذلك يقول الحق عن ذلك: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}. والحق يأتي ب {كل} بالتنوين- أي كل من الرسول والمؤمنين. ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. ونحن نعرف أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيبًا؛ فلا يوجد إيمان بمحس أبدًا. فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان؛ لأنها مشهودة. وعناصر الإيمان في هذه الآية هي:
إيمان بالله وهو غيب. وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقًا هم الملائكة لما عرفنا، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة إيمان بالكتب والرسل. وقد يقول قائل: هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر، والكتب مشهودة. ولمثل هذا القائل نقول: لا، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون.
وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم؟. ونقول: إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجًا عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور، وفيه الأحكام التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها. إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛ لأن أقضية الحياة تختلف، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو، ولذلك يأتي القول الحكيم: {لا نفرق بين أحد من رسله} فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد، وما تختلف من ناحية الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر.
وبعد ذلك يقول الحق؛ {وقالوا سمعنا وأطعنا} إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب، وأن يمتثل المؤمن أمرًا ويمتثل المؤمن نهيًا في كل أمر يتعلق بحركة الكون. فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون: إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج. وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين.
لهؤلاء نقول: أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة، وإنما جاء ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية، لكن الدين الإسلامي جاء خاتمًا للأديان منظمًا لحركة الحياة، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم، نجد القول الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} سورة الجمعة.
إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى، فهو لم يأخذهم من فراغ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات. وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه؟ يقول لهم: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} سورة الجمعة.
إذن فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة، تماما كما كان النداء إلى السعي لذكر الله. وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة، إذن {سمعنا وأطعنا} أي سمعنا كل المنهج، ولكن نحن حين نسمع المنهج، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات؟. ولأن أحدًا لن يتم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق: {غفرانك ربنا وإليك المصير} فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك، وأنت الإله الحق، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرة حتى نلقاك، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك ويقول الحق: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. اهـ.